{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)} [الأنبياء: 21/ 1- 6].نزلت الآية الأخيرة كما يلي:أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم: إن كان ما تقول حقا، ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا الصّفا ذهبا، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا، لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بل أستأني بقومي، فأنزل الله: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}.نبّه الله تعالى في مطلع هذه السورة (سورة الأنبياء) على اقتراب وجود الساعة (القيامة) ودنوّها، وصور لنا هذا بصيغة الماضي، مبينا أنه قد بات في حكم المقطوع به، المقرر القائم، أنه قرب زمان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا، وهو اقتراب الساعة، ولكن الناس في حياتهم ساهون غافلون، لاهون معرضون عن التأهب للحساب، والتفكر في الآخرة، وقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} عام في جميع الناس، وإن كان المشار إليه في وقت نزول الوحي بهذه السورة كفار قريش، بدليل ما بعده من الآيات، وقوله سبحانه: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} يريد الكفار.ودليل غفلة الناس: أنه ما يأتي الكفار من قريش وأشباههم من قرآن جديد إنزاله، ينزل سورة سورة، وآية آية، على وفق المناسبات والوقائع إلا استمعوه، وهم لاهون ساخرون مستهزءون، متشاغلة قلوبهم عن التأمل وتفهّم معناه، وهذا ذم صريح للكفرة، وزجر لأمثالهم عن تعطيل الانتفاع بما يسعدهم، وقوله تعالى: {مُحْدَثٍ} يراد به الصوت المسموع فهو حادث بلا شك، وأما أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم بقدم الله تعالى.وكان حال الكفار عند نزول القرآن: هو التناجي وإخفاء الكلام فيما بينهم، مرددين: هل هذا الرجل محمد إلا بشر كغيره من الناس في عقله، وتفكيره، وتكوينه، فكيف يختص بالرسالة دونكم؟!أفتتبعونه، فتكونون كمن يأتي السحر، وهو يعلم أنه سحر، أو أتصدقون بالسحر، وأنتم تشاهدون أنه سحر؟! فهم يتهمون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه ساحر.قال الرسول بتعليم الله: لا تخفوا ما تقولون، فإن الله ربي وربّكم يعلم ذلك، لا يخفى عليه خافية من أمر السماء والأرض وما يحدث بينهما من أقوال وأفعال، وهو الذي أنزل القرآن العظيم، وهو السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد.ثم اشتط مشركو قريش فقالوا عن رسول الله: إن ما يحدث به عن الله مجرد تخاليط أحلام، رآها في المنام، بل إنه افتراه واختلقه من عند نفسه. ولما فرغوا من ترداد هذه المزاعم قالوا: إن كان محمد صادقا في أنه رسول من عند الله أو أن القرآن كلام الله، فليأتنا بآية مادية غير القرآن، كناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من عيسى.ثم كشف الله حقيقة ادعاءاتهم ومطالبهم: أنهم يصدرون عن غير إيمان، فما أتينا أهل قرية أو مدينة بعث إليهم رسول من آية، فآمنوا بها، بل كذبوا، فأهلكهم الله بكفرهم، أفهؤلاء أهل مكة يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟! إنهم جماعة مكابرون، لا يؤمنون بشيء مهما جاءتهم الآيات.بشرية الرسل:كانت اتهامات الرسل من أجل التهرب من الإيمان برسالاتهم غريبة وعجيبة، فمرة يوصفون بالسحر أو الجنون أو الكهانة، ومرة يستنكر كونهم من البشر حين رؤيتهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وحين يفلس المكابرون والمعارضون الألداء من صدّ الناس عن الإيمان برسالة الرسول، يلجأون إلى التهديد بالقتل أو الطرد والإبعاد من البلد أو الوطن، ليستريحوا من محاولاته أسلمة الناس وجهوده في إقناعهم بتوحيد الله، والتزام أوامر الله، واجتناب نواهيه ومحظوراته. وهذا الاستغراب من بشرية الرسل دوّنته آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: